هل يمكن أصلاح الساعة

هل يمكنك إصلاح هذه الساعة ؟"

قالها لكهل يضع على عينيه نظارة تكاد تكون أشبه بالمجهر .. محني الظهر ..
يدقق في واحدة من الساعات الكثيرة المتناثرة أمامه في الدولاب الخشبي ذي
الأطراف الزجاجية والأدراج المهترئة المليئة بالأدوات الصغيرة .. سرعان ما
يتناول الرجل إحداها ويلتقط قطعة معدنية صغيرة بالكاد يمكن رؤيتها .. انتهى
مما كان يعمل .. نظر إلى خالد .. تناول منه الساعة التي يريد إصلاحها ..

نظر إليها " هم .. هم .. ساعتك .. ساعتك .. انتظر عشر دقائق لأفحصها ومن ثم أخبرك ما هو العطل "

أجابه خالد بلا تردد " لا .. لا يمكنني الانتظار .. سأترك الساعة عندك لتصلحها على مهلك .. وسأعود بعد فترة "

يبدو الاستغراب على الرجل الكهل " انتظر .. عشرة دقائق .. أو أقل

يجيبه " ليس مهما .. خذ ما تشاء من الوقت .. المهم أن تصلحها " ويكمل بلا مبالاة " فأنا ذاهب إلى المقبرة الآن "

يفاجأ الكهل فيرفع عينيه عن الساعة وينظر إلى خالد " اعذرني .. البقية في
حياتك .. حسنا يا بني .. سأنتظرك ولن أتأخر في إصلاحها .. فكما ترى ..
الوقت ثمين عندي"

يهرول إلى سيارته بعد أن يترك الساعة .. مسرعا في طريقه ليصل قبل الآخرين
.. فقد تولى مسؤولية التأكد من حفر القبر .. يصل ولكنه يفاجأ بما يضايقه ..
يجد الحفار .. رجل مسنا وبيده الضعيفة المرتجفة يمسك المعول ويفتت الرمل
ليكمل الحفر بكل بطء.

يتأفف خالد متضايقا " كم هو بارد هذا الرجل " .. يأخذ منه المعول بعد
معارضة بسيطة ويكمل الحفر بدلا عنه فيبادره الكهل بسؤال استفزازي

" لم أنت مستعجل ؟"

لا ينظر إلى الرجل بل ينهمك في العمل ويجيبه " وهل في الموت استعجال ؟.. قد
يجلبون الميت في أية لحظة .. وأنت هنا .. تحفر القبر بمزاج "

يعترض الحفار قائلا برفض واضح " أنا لا أحفر بمزاج .. كل ما في الأمر أنني رجل مسن .. وأحفر بما أملك من طاقة "

يكمل خالد كأنه لم يسمع ما قاله الرجل" ألم تسمع أن إكرام الميت دفنه ؟؟..
أتريد أن نضعه هنا .. بجانبك حتى تنتهي من حفر القبر .. بطريقتك هذه لن
تنتهي قبل سنة .."

لا يهتم الرجل بما قاله خالد .. يجلس على الأرض .. يشعل سيجارة .. ينفث
دخانها قائلا " الموت والحياة علمهما عند الله .. دائما كنت أجهز القبور ..
وأتركها .. كنت أفكر أنه إذا مات شخص ما .. فان القبر جاهز "

توقف خالد عن العمل ونظر حوله بحركة ساخرة " نعم .. نعم .. أرى القبور الجاهزة .. أين هي ؟.. هل ردمتها ؟"

يقترب الرجل من حافة القبر ويهمس " أتتني امرأة مسنة "

يقاطعه خالد " في المنام؟"

تجاهل الرجل رائحة السخرية وأكمل " امرأة مسنة تزور قبر ابنها .. قالت لي" لا تحفر القبور وتتركها هكذا .. فهي شؤم "

يعود خالد ويقاطعه " شؤم على من ؟.. ربما عليها "

يضحك ويكمل ساخرا " من الأفضل لها أن ترحل .. وترتاح "

لا يبدو على الرجل أي اهتمام بآراء خالد بل يكمل " قالت لي أن القبور
المفتوحة شؤم .. فالقبر الجاهز ينادي صاحبه .. ويناديه ليترك الدنيا ..
ويأتي إلى القبر "

يمد خالد يده للرجل ليساعده على الخروج من القبر " خرافات قديمة "

يجلس مكان الرجل الكهل الذي نهض ليرش الماء في القبر الجديد قائلا " الشباب
صحة ونعمة .. نعم لو كنت مكانك الآن لما انتهيت بهذه السرعة "

أنهى جملته الأخيرة وأخذ يشير إلى القبر ضاحكا .. استغرب خالد .. فأشار
الرجل قائلا " يا بني .. لا تحفر القبور هكذا .. القبر ليس مجرد حفرة وهذا
صغير جدا "

يسأله بضيق " وهل للقبور هندسة خاصة وتصميم ؟"

ينزل الكهل ببطء " حسنا .. فليكن كما تقول .. هندسة خاصة وتصميم .. تعال وانظر .."

يشير إلى منتصف القبر قائلا " هنا .. نحفر حفرة بنفس الطول .. ولكن أضيق .. حتى نضع فيها الميت على جانبه الأيمن "

لا يكترث خالد لهذه المعلومات فيسأله الكهل وهو منهمك في إكمال الحفر " هل الميت من أقربائك؟"

يجيبه بآلية " نعم .. ابن أخي .. طفل صغير "

لمحة من الحزن والأسى تكسو وجه الرجل الكهل الذي يتوقف عن الحفر قائلا لخالد " يبدو عليك عدم الاكتراث "

تمر فترة صمت ثقيلة قبل أن يجيبه " أنا لا أنكر أني حزين .. ولكن ما العمل
؟.. هل سيعود إن بكيت أو حزنت ؟.. لن يعود .. قبله رحل والدي .. ثم والدتي
.. وحزنت كثيرا حتى أحسست أن الحزن ترك في قلبي أثرا كأثر الكي .. ولم تعد
الأحزان تشكل شيئا .. لا أظن أن هناك حزنا أكثر مما رأيت وأحسست .. الموت
فراق .. أقنعت نفسي بأن لا أهتم بعد ذلك .. من يرحل .. يرحل .. ومن يبقى ..
يبقى .. وسأتعامل مع الحياة على هذا الأساس .. حتى يرحلوا قبلي .. أو أرحل
أنا قبلهم "

ينهي الرجل عمله .. يستريح على كومة الرمل ... ينظر إلى الشاب الذي أمامه
.. حركاته .. إيماءاته .. حتى سكناته .. كل شيء يدل على اللامبالاة .. "
ولذلك أصبحت لا مباليا .. ولا تهتم بالموت ؟"
يتناول خالد جزءا جافا من الرمل ويفتته " أنا أتعامل معه كما تحفر أنت
القبور .. ببرود .. الأمر يتوقف كله على مدى قوتك في كبح جماح نفسك ومشاعرك
في التعامل مع الأحداث .. خذ الحياة بسهولة "

وبدهشة يسأله الكهل " وهل يوجد في الموت سهولة؟"

يتجاهل خالد سؤال الرجل فهو لا يريد الإفصاح عن مشاعره أكثر .. ينظر حوله "
تأخروا كثيرا .. من المفروض أن يصلوا .. انظر " ويشير بيده إلى القبور "
انظر .. قبور كثيرة .. مختلفة الأشكال والأحجام والعلامات ..ولكنها .. في
النهاية .. مجرد قبور"

فترة انتظار تمر بطيئة تملأ نفس خالد بالملل " أعطني المعول لأحفر قبرا آخر بدلا من الجلوس هكذا "

يرفض الكهل قائلا " لا يا بني فقد قلت لك .."

يعترض بحماس الشباب " أتصدق تلك الخرافات هيا أعطني المعول "

جلس الكهل والضيق يبدو عليه بينما خالد منهمك في الحفر .. وفي كل لحظة ينظر
إلى رسغه فلا يجد الساعة .. مرت فترة قبل أن يناديه الرجل " أنت .. أيها
الشاب .. اخرج .. لابد أنهم أهلك "

يسمع جلبة وهمهمات فيخرج من الحفرة .. يتقدم إليهم ويندس بينهم وسرعان ما
تنتهي مراسم الدفن والدعاء للميت .. بكى الأب .. وعزى الأصدقاء .... تبادل
الجميع كلمات العزاء لأنفسهم والرثاء للميت .. وبخطوات حزينة غادر الجمع
كما أتى .

ودع خالد الرجل الكهل قائلا بلهجته الساخرة " لن تعمل اليوم .. فقد جهزت
قبرا جديدا .. إذ أن قبرا واحدا لا يكفي" يتوجه إلى الخارج وهو يحادث أحد
أصدقائه .. تلوح منه التفاته إلى الرجل الكهل الذي بدأ بردم الحفرة ..
يبتسم وينظر إلى رسغه ليكتشف أنه نسي أمر الساعة " تأخرت كثيرا "

يردد لنفسه " وهل يحس أحد بالوقت في المقابر .. كل شيء يتوقف تماما .. تجمد
الحياة ويجمد الزمن .. لا أحد يحس به إلا حين يضع قدمه خارج البوابة ..
تعود الحياة إلى الحياة "

ويكمل ساخرا " والأغرب من ذلك الجمود .. العائلات التي تعيش هناك ..النسوة
.. والأطفال الذين يولدون ويكبرون حيث تتوقف حياة البشر .. حياة جديدة تنمو
في مكان اللاحياة .."

وبحركة لا إرداية ينظر إلى الساعة التي لا يجدها .." أخشى أن يكون أنهى عمله وحمل دولابه الخشبي ورحل .. فقد قال أن الوقت ثمين "

يبتسم بسخرية " الوقت ثمين .. رجل كهل يرى أن الوقت ثمين "

يتوقف عند زاوية الشارع .. يترك سيارته مهرولا .. يلمحه .. كما تركه ..
محني الظهر أمام دولابه الخشبي وقد أسند مرفقيه على إحدى الأدراج النصف
مفتوحة .. يدقق من خلال النظارة في الساعة التي بيده .. يتجه إليه متمتما "
نفس المنظر .. لم يتغير شيء .. كأنه صورة فوتوغرافية .. ويقول الوقت ثمين "

حين يقترب منه لا يبدي الرجل أي اهتمام .. يبادره خالد قائلا " هل انتهيت من إصلاح ساعتي ؟"

يضع الكهل الساعة التي كان ممسكا بها في الدرج ويتناول أخرى من الدولاب "
ساعتك .. العطب فيها أكثر مما توقعت .. بحاجة إلى قطعة هامة .. ليست متوفرة
عندي "

بغضب وبحنق يقول " ولكنك قلت أنك ستصلحها خلال عشر دقائق "

فيجيبه بصوت هادئ " نعم .. قلت ذلك .. ولكن حين فككتها وجدت العطب أكبر مما
توقعت .. من الأفضل أن تأخذها إلى المحل الذي اشتريتها منه .. لعلهم
يصلحونها "

أعاد الساعة إلى خالد .. وعاد هو كما كان .. محني الظهر يعالج القطع
الصغيرة في إحدى الساعات المفككة .. وضع الساعة في جيبه متذمرا " الوقت
ثمين .. رجل مثل التمثال "

ركب سيارته .. ازدحام شديد في الشارع اضطره إلى التوقف .. أدار جهاز
الراديو يبحث عن أغنية مسلية .. يستمع إلى حوار بين أحد المستمعين ومقدم
البرنامج الذي يسأل عن معنى كلمة ( غر ينتش) وما سبب التسمية .. يبتسم خالد
قائلا " الزمن .. الزمن يتوقف عند هذا الكهل ذو الوقت الثمين .. أما
المكان .. فهو جامد عند الآخر .. حفار القبور التي تنادي أصحابها " تتحرك
السيارات ببطء .. يقترب من الحادث .. ينظر بفضول كما يفعل كل السائقين ..
يرى سيارتين .. إحداهما شبه محطمة .. شاب يجلس على الرصيف وقد اختلط بياض
ملابسه بلون الدم .. بينما يقوم ممرض الإسعاف بوضع غطاء أبيض على الآخر
الملقى بجانب السيارة "

حزن يطفو من أعماق خالد .. يكاد يخنق أنفاسه ولكنه سرعان ما يتجاوز ذلك قائلا لنفسه " ربما كانت الخرافة .. صحيحة"
م