فاض الكيل بالنقطة ولم تعد تحتمل الحياة مع الخط , لأنها تمضي جل وقتها
تدور وراءه طالعة نازلة وكأنها في دوامة لا تنتهي , فهو يصير حروفاً في بعض
الأحيان , ويكون عليها أن تلبي أوامره سريعاً , بأن تقبع تحته تارة , أو
تستقر فوقه تارة أخرى .
أما عندما يتدور ويتثلث أو يتربع , أو يتخذ أيّاً من الأشكال الأخرى فإن
النقطة تبلغ حينئذٍ ذروة غيظها وغضبها منه , إذ أنه يكون متجاهلاً لها
تماماً , ولا يعيرها اهتماماً وكأنها غير موجودة بالمرة في هذه الدنيا .
عند الغروب ذات يوم , وبينما كانت الشمس تودع النهار على أمل اللقاء في
اليوم التالي , كانت النقطة واقعة أسفل الخط وقد تشكل على هيئة علامة
استفهام , فداخلها شعور مريع بأنها موشكة على الانهيار , كما لو أنها صخرة
كبيرة ستقع وتنفصل عن جبل شاهق , لذلك قررت أن تضع حداً لعذاباتها وتحسم
ماجال برأسها طويلاً فقالت للخط مباشرةً دون مواربة وفي صرامة وحزم :
لقد تعبت بسببك ما يكفي , وسئمت الحياة معك , لذلك سأفارقك ولن أعيش معك بعد اليوم .
سأرتحل عنك بعيداً , ولن أكون لك . سأصير حرةً أرتع كما أشاء في فضاء
الصفحات . سأحيا من الآن فصاعداً لذاتي و أوليها ما تستحقه من العناية
والاهتمام , فأنا فريدة , خاصة , مميزة , لا مثيل لي في الكون , ساحرة ,
فاتنة , صغيرة , كبيرة , متكتلة , مصمتة , مغلقة , غامضة , مبهمة , مدملكة ,
مثيرة , رزينة , مستقرة , ساكنة , متحفظة , ملمومة , مضمومة , ولن أسمح
لأي كان أن يستغلني ويحط من قدري , أو يعاملني باستعلاء واستخفاف . أية
فرادة هي أنا , وأية عظمة مستحيلة في الخلق أكون .
نظر الخط إلى النقطة بدهشة , وهو يتأملها جيداً , فلطالما تبرمت وتذمرت ,
ولكن في كلامها هذه المرة نغمة جديدة غريبة , لم يسمعها منها من قبل أبداً ,
لذلك فكر مستغرباً وهو يسأل نفسه :
الآن .. تتحدث عن الحرية ؟ أتفكر في ذاتها بعد كل تلك السنوات ؟ لو قالت
ذلك منذ زمن طويل لقلت : أجل , إنها متأثرة بهوجة الأفكار المنتشرة في كل
مكان , ولكن الآن , كلام عن الحرية ؟ هل تظن هذه العبيطة أن العالم مازال
يعيش زمن حركات التحرر , ويرفع شعارات الاستقلال ؟ ألم تسمع عن النظام
العالمي الجديد ؟! الا تعرف أن كلمة الحرية صارت من الكلمات الشاذة الغريبة
الموشكة على الإنقراض تقريباًَ ؟
ابتسم الخط للنقطة ابتسامة صفراء مستخفة , لحظتها النقطة فزاد غيظها وصارت
تغلي في داخلها أكثر , لكن تلك الصفراء لم تحل دون استمرار هواجس الخط
أيضاَ فاستمر مسائلاً نفسه :
ولكن من أين لمثل هذه المفعوصة بمثل هذه الأفكار ؟ إنها لا تغيب عن عيني ,
وتدور حولي كالثور في الساقية طوال الوقت , فكيف يتسنى لها التلفظ بكلمات
من هذا النوع ؟ لعلها تغافلني عندما أنعس وأنام فتذبه سرّاً إلى ندوات حقوق
الإنسان أو علها تنتمي – دون علمي – إلى جمعية من جمعيات النساء الجديدة
المنتشرة في كل مكان الآن .
راح الخط يتأمل النقطة جيداً , ويتمعن فيها طويلاً عله يكتشف متغيرات جديدة
طرأت عليها , فلما توصل إلى أنها مازالت كما هي مجرد نقطة صغيرة , لا أزيد
ولا أقل , تنهد بارتياح وطرطق أصابعه في رضا وملل ثم قال لروحه :
اتركها يا ولد تبعبع وتفضفض عن روحها قليلاً , فكم من مرة هبت وثارت وزوبعت
وعفّرت وغضبت وحزنت لكنها في النهاية تطلع , تطلع لفوق , ثم تهبط على لا
شيء . إنها صغيرة حمقاء , رعناء , هوجاء , لا حول لها ولا قوة , تظن أنها
قادرة على العيش بمفردها بعيداً عني , لكن هيهات , فهي لا تستطيع التحرك
قيد أنملة من مطرحها إلا بإذني ومشيئتي , فلتسكت يا ولد حتى تهمد نارها
وتصفو وحدها .
لكن النقطة نجحت في إقلاق الخط بعد أن حاول طمأنة نفسه , وجعلته يتوتر
فعلاً , فلقد استمرت في ثورتها , ولم تكف عن الكلام وراحت تقول :
ثم انك بدوني تفتقد كل معنى , وينتفي منك المبنى , فأنت محكوم و موسوم بي ,
ولا يمكن أن تكون إلا إذا كنت أنا . سبحان المتجلي الجبار , يضع رزقه في
أضعف خلقه .
زفر الخط بمرارة وضيق وهو يهمس لروحه : (( اللهم صبرك يا روح )) , اسكت يا
ولد وامسك نفسك فهي نقطة , مجرد نقطة تافهة لا راحت ولا جاءت فلا تنسق وراء
استفزازها .
تثائب بملل وفضل أن يتجاهل الأمر كله ويتركها لينام قليلاً حتى تهدأ ,
فتكور راسماً من نفسه دائرة صغيرة , وراح يصفر لحنا خفيفاً هادئاً لينسيه
مهاترات النقطة وشغبها ويحلب له النعاس . اغتاظت النقطة أكثر من سكوت الخط
ولامبالاته بالرد عليها , وجاءت حركة نومه كدليل جديد على قلة احترامه لها
واحتقاره واستخفافه بها , لذلك اندفعت تقول حانقة :
ثم إنني سبب وجودك , وسر حياتك , فأنا البيض وأنت الفيض , إذ أنبعث فأنشطر
فأتكاثر فأتلاصق فأتماسك فتكون انت , فأنت بعض من بعضي , وأنا التي جسدتك
لتكون من مبتدأ أساسك حتى منتهى رأسك .
انتفض الخط منتصباً حاداً كالعصا , فقد أخذ الغضب منه كل مأخذ ولم يستطع
تحمل المزيد من استفزازات النقطة , والسكوت على كلامها المتكبر المهين ,
وانطلقت كلماته كالحمم وهو يقول :
اسمعي أيتها البائسة المغرورة , لم أكن أرغب في أن أرد عليك في البداية ,
أما الآن وقد سمعت منك ما سمعته , فلسوف أواجهك بحقيقة وضعك في هذا العالم ,
فوجودك لا معنى له إلا بوجودي يا مهملة , يا مبهمة , يا محدودة , يا
مسدودة , يا كئيبة , يا مريبة , يا غريبة , يا وصمة – إذا كنت وحيدة دوني –
على بياض أية صفحة . أنا الذي يحميك ويذود عنك ويقول خلوها , لا تزيلوها ,
فهي مهما كان شكلها نافعة لا تغيب عنها الضرورة , ولها بعض من الكينونة ,
حتى وإن كانت فقيرة , صغيرة , لا تستبين . ثم عن أية حرية تتحدثين ؟ وهل لك
من خيار حتى تختاري , وتبتعدي ؟ أنت لا حرية لك ولا انتقاء , أنا الحر
الذي يمكنه الصعود شمالاً أو الهبوط جنوباً , السريان شرقاً أو التوجه
غرباً .
أنا المربع , المثلث , المستدير , المفرود , الممدود , الملموم , المضموم ,
المعلوم , القوي , الضعيف , الشاطر , المشطور , المستوي , المنحني ,
الرفيع , العريض , القصير , الطويل , القائم , المائل , الرأسي , الأفقي ,
الفاصل , القاطع , الباتر , الصارم و الحاد , المنساب , المستقيم , الرقيق
, الدقيق , اللين , الطيع , الواضح , الجليّ , المحدود , الواصل , المانع ,
الحائل , الدال , السلس , المرن , المتعرج , القافل . أنا الذي أكون حرفاً
فأتجسد ألفاً وهاءً وحاءً , أنا المتحول السرمدي تحير في كهني الفلاسفة ,
وتغنى بي المنشدون , ألم تسمعي من قال : الحرف يسري حيث القصد ؟ ألا تدركين
أنني المتجلي ببهاء المعاني , والقادر على التجسد والتسامي ؟ أنا الذي
أكون شموساً وأقماراً وبحاراً وأنهاراً , أنا الورد والأشجار , والمتجسد
بهيئات الذوات , أنا من حفظ ذاكرة الزمان , ورسم معالم المكان , أجرد
الأشياء جوهرها فتبقى أبداً إذا ما فنيت وغاب مظهرها .
هنا نتوقف قليلاً , لنفكر في النقطة , كيف سيكون ردها ؟ , وكيف ستواجه ما
فاتها من حقائق ؟ , سؤال يطرح نفسه , أتركه لكم أحبائي , وأراكم في الجزء
الثاني والأخير من هذه القصة إن شاء الله .
في أمان الله ورعايته .
منقول